القائمة الرئيسية

الصفحات

لوحات من قبيلة - الطلّيسا


لوحات من قبيلة - الطليسا.

ذ. إدريس الگروج.


صرخت ديكة المدشر، وأذن الفقيه معلناً صلاة الفجر، وعوت الكلاب كالدئاب وكأنها تحاول تقليد صوت المؤذن، وحط الدجاج من فوق أعمدة خُمها وخرجت الكتاكيت من تحت أجنحة الدجاجات الحاضنة لتلتقط أصناف الدود التي ودعت مخابئها قبل طلوع الشمس بحرارة أشعتها لتبحث عن رزقها، فصارت رزقاً.


قفزت الديكة الرومية من الأسقف تملأ بهو الديار بقرقراتها لتحمي ممتلكاتها التي حددتها من قبل، وهي تنفخ حجمها وترجف أجنحتها وترخي سنودها  الحمراء وتضخم ألغادها بدخ الدماء لعلها تظفر برضى الحريم.


استيقظت "حدهوم" متثاقلة ومتسللة من تحت "لعديلا" ومن فوق حصير الحلفاء المغلف بإزارها القديم حتى لا تزعج الأطفال الغارقين في النوم. وأشعلت "لانبا" (المصباح البترولي) بعود ثقاب أخرجته من العلبة الصفراء التي تضعها عادة تحت مخدتها حتى لا تتبلل رؤوس العيدان الفسفورية بالرطوبة ولن تصدر شرارة الاشتعال عند حكها على الطرف الخشن من العلبة.


توجهت إلى "لخياما" (المطبخ) لتحضير وجبة الفطور قبل رجوع الأب من سقي فدادين الذرة، لأن نتيجة القرعة منحته آخر "نوبة" السقي ذلك اليوم. قد يكون جائعاً.


أشعلت النار في كومة من الحطب و"لوكيد" (روث البقر اليابس) وضعتها بين ثلاث "مناصب"، وانطلق الدخان فاراً إلى السماء من "زنورة" (مدخنة) المطبخ ليلتحق بدخان كل "كشينات" المدشر وقد يحمل معه روائح "الملوي" و"لقرايس" (بغرير) ليثير شهية العائدين من المسجد بعد صلاة الفجر.


بعد إعداد الفطور ووجبة السفتوح (وجبة كانت تؤخذ بين الفطور والغداء)، دخلت حظيرة الأبقار لدر الحليب قبل تسليمه إلى المكلف ذلك اليوم برعي "الدُّولا"، الذي يتبعها إلى الغابة مكان الكلأ وإلى المورد للشرب.


أثناء إفراغ الحليب بالقدرة، وجدت محتواها قد تخثر وغطته قشرة سميكة تميل إلى الاصفرار غنية بالدهون وتفوح منها رائحة الاختمار، معلنة بوقت المخض.


في العصر، أخرجت شكوتها التي صنعتها من جلد تيس ضحوا به في تلك السنة، وغمستها في ماء دافئ لتنظفها من بقايا الدباغ. وعلقتها بين ثلاثة أعمدة على شكل هرم، وأفرغت رائب القدرة بداخلها، وبدأت تنفخ في فمها حتى امتلأت هواء وبدأت تدحرجها، وتموجات اللبن بداخلها تصدر إيقاعات متناسقة مع أغنيتها:


"آشكوتي يا لمباركا

دايرا بيك لملايكا

آشكوتي دوح دوح

عمرلي هاد لقدوح."


بقربها، ولدها يلعب "بلكعاب" (عظام الكاحل) التي جمعها من قوائم أضحية العيد أو من التي اشتراها أبوه أيام السوق كوزيعة. الغريب أنه لم يخرج بعد العصر ليلعب مع أقرانه لأنه ينتظر أكلته الشهية "الطليسا"، وأمه تعلم ذلك.


أفرغت "حدهوم" اللبن في سطل أبيض، وجمعت فتات "السمن" (الزبدة) على شكل كرة، ووضعتها بماء بارد لإزالة ما تبقى عالقاً بها من اللبن قبل إضافة الملح ووضعها في "القلوشة" لتتحول إلى "السمن الحَر".


قبل ذلك، أخذت قرصة (خبزة صغيرة) وذهنتها بالزبدة الطرية (الطليسا) وقدمتها لولدها الذي ما كاد يأخذها حتى خرج مسرعاً ليأكلها خارج الدار.


كان هناك رجل جالس على الأرض، متكئ على الحائط المقابل لباب دار الولد، ملفوفاً في سلهامه الصوفي. ولما رمق الطفل بطليسته، ناداه:


"أجي أ ليشير (الطفل) عمرك شفت العطا دجمل أو الشرج دلعود؟"

فأومأ برأسه بالنفي.


"أَرًي ديك الطليسا أُو نوريلك العطا دجمل أو الشرج."

فقدمها له ليكتشف عطة الجمل والشرج (السرج). فنهشها نهشاً ولم يترك له سوى قوس قرصة يحمل آثار أسنانه. فأخذه الطفل ضاحكاً وانصرف قانعاً بما تبقى. المهم أنه اكتشف العطا دجمل والشرج دلعود.


في أحد الأيام، خرجت "حدهوم" تتبع ولدها ورأت ذلك الشخص يلتهم طليسته، فصاحت في وجهه:


"آلِياه أَبوركابي انتينا كالس هنا ابحال الفكرون أو "بونفاخ" (حنش غير سام)، الولد أللي اخرج بشي طليسا كتسرطالو، ياك ما باغي التوعيف (وجبة بين الغداء والعشاء) اعلى حسباب الواشون؟"


ومنذ ذلك اليوم، لم يعد المتربص إلى ذلك المكان، وصار ولد "حدهوم" وأقرانه يأكلون طليستهم كاملة.



(1) السنود:  قطعة طويلة من اللحم فوق منقار الديك الرومي، وخلال فترة المغازلة يصبح لون هذه الشريحة لدى الذكور أحمر لأنها تُملأ بالدم.
(2) اللُّغد: اللّحمة بين الحنك وصفحة العنق. والجمع ألْغاد و عند الديك الرومي عبارة عن شريحة من الجلد الأحمر تتدلى من ذقن الديك الرومي ، وهي تكون جذابة للإناث .
(3) الدُّولا: كان نظاما لرعي ابقار المدشر بالتناوب و حسب عدد الأبقار لكل شخص أو يعينون راعيا لجميع الأبقار و يتفرغ باقي السكان إلى أشغال أخرى.
(4) النوبة: نظام متبع في القبائل يحدد دور و مدة أو حصة الفرد من الإستفادة بالمنافع المشتركة أو إسداء خدمات لصالح المدشر و تقدر بناء على حجم الإستفادة. و كانت تستعمل النوبة في سقي الفدادين بالماء بحيث توزع أدوار السقي و مددها بين الفلاحيين بناء على القرعة و خاصة بسواقي المياه المرتبطة بالترعات أو السدود التلية. و تستعمل كذلك في وجبتي غذاء و عشاء فقيه و إمام الدوار يقدمها له كل فرد يوميا بالتناوب إذا لم يكن من أهل المدشر و لم تكن معه زوجته أو كان أعزبا. و تستعمل في رعي ابقار الدوار (الدُّولا) و تستعمل في مجالات اخرى لتنظيم الإستفادة و تقديم الخدمات بطريقة .


أنت الان في اول موضوع

تعليقات