لوحة من دوار - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج
الجزء الثامن : حمير دواري عذرا
كان حمار دواري يقضي أيامه في نقل الأحجار و التراب و المياه و الأخشاب و فوق ظهره "الزنبيل" أو "الشواري" باستمرار ليبني صاحبه بيته و إسطبل الحصان.
و يدخل الحصان مترنحا الى إسطبله الذي يقيه المطر و البرد و الحر ليأكل أحسن علف و يشرب ماء زلالا جُلب فوق ظهر الحمار.
و يبقى الحمار بالخارج تحت الغيث و الحر و أمامه رزمة تبن الشعير و ماء قذر، و إذا نهق المسكين محتجا لعنوا الشيطان، و إذا صهل الحصان هرول الجميع مسرعا نحوه خائفين أن يصاب بسوء و إنه في أمان.
مات الحمار و تهدم البيت و الإسطبل و مات الحصان من شدة الجوع و العطش بعد أن نفقت كل حمير الدوار و انهارت حضارة الدوار كما تنهار الخيمة بعد أن تتلاشى أعمدتها المحتقرة.
كانت حمير مدشري تتألم في صمت مرير، وأحيانا تبكي بدموع تنهمر من عيونها الكبيرة الجميلة بسوادها و بياضها الناصع و تبلل رموشها الطويلة و تنساب فوق زغب وجهها و لا أحد يبالي ببكائها و شكواها الدفينة.
كانت حمير مدشري تقضي كل حياتها في جر المحراث و حمل الأتربة و أحجار البناء و نقل شبكات المحصودات و تبنها و براميل المياه الخشبية و رزم الحطب الضخمة و حمل البشر أثناء السفر، و الضرب المبرح بلا شفقة و بكل أسلحة التعذيب : بالعصا الغليظة اليابسة و بالمسوط و الوخز بالمسلة و شوك الصبار و بكل سلك حاد يسيل الدم الى حد النزيف.
كانت عُجُبُ و خاصِرَة و كِفْلُ و حارِكُ و كتف و صَهْو و عُرف و أضلع كل حمار من حمير مدشري دائما مصابة بدمامل و تورمات وقروح متقيحة و جروح تدمي على الدوام يحط فوقها الذباب ليزيدها عذابا بامتصاص الصديد و الدم و لسع اللحم.
كانت حمير مدشري تفرح يومين في الأسبوع، يومي السوق رغم أنها تعلم ما سيلحقها من عذاب في طريق السوق. فرحة لأنها ستلتقي بإخوانها و أخواتها داخل فندق الحمير بالسوق و قد تتمتع بسعادتها المرجوة داخل فندق السوق الذي يزينه و يحببه لها اختلاط الجنسين، و تخرج منه حزينة نهاية السوق.
و تعود حمير مدشري الى مرابضها فرحة بذكريات الفندق و هي تحمل علامة في جبهتها من صباغة و ضعها صاحب فنق الحمير كوصل بأن مالك الحمير قد أدى ثمن متعة الحمير في فندقه و التي ستساعدها على تحمل العذاب إلى سوق آخر.
كان مدشري يعمه الفرح يومي السوق، فرحة حميره نهارا و فرحة رجاله و نسائه طيلة ليلة السوق.
تعليقات
إرسال تعليق