لوحات من دوار - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج
الحزء السابع : دمعة على عين بلا دموع
هل تعلمون أن ثدي أمكم قد يبس و جف يا سكان مداشر قبيلتي بني يازغة؟
رأيتك و يا ليتني ما رايتك يا "عين" بعد غيابي الطويل عنك لكي أبقى محتفظا بصورتك الجميلة التي ترسخت بذاكرتي و لن تهتز بما صرتِ اليه من يأس و حزن و إكتئاب و خراب و هجران.
لم أصدق عيناي أنني أراك أنتِ التي لا زَالت خيراتك تدب في جسدي و لا زلت أشعر ببرودة مائك و أنا اسبح صيفا بمدشري في ترعة السد. و لا زال خريره بمسمعي و أنا ازورك مساء رفقة الزملاء و أفضل خريره على صوت مدياعي الصغير رقم6 و يريح عقلي من حفظ دروس العلوم الطبيعية و أشفي غليلي بمائك الرقراق و أغسل في ساقيتك المنهمرة وجهي لكي استرجع قوتي و وعيي. ولا زالت نكهة و لذة اغذيتك بذوقي اتذكرها عندما استهلك خضرا بلا طعم و ليست مسقية بمائك.
رأيتك و لم أصدق عناي . رأيتك كثيبا بين كثبان رمال الصحراء و بقية تكنة تآكلت بمرور العصور و بقيت مذعورا و فمي فارغ من الدهشة و الحزن و أنا أشاهد جحافل الذباب و الناموس و الوزغ و الصراصير و الجردان تتجول بأمان داخل فمك و جوفك و بجوانبك أحجارا كانت ملساء لامعة شهدت و عاشت عصر مجدك و أنت توزعين الحياة بسخاء على كل المخلوقات الدانية و القاصية و تزودين سوق القبيلة و القبائل المجاورة بالخيرات فتصدعت و تفتت من شدة الضمأ و الحر.
كان ماؤك العذب ينساب بين المداشر ليحارب الموت و يبعث الحياة و يتذفق بمرح بين أزقة القلعة و المنزل يرويها و يطهرها و يشق مداشر امطرناغة و تروي شرايينها بماء زلال.
هل رحلتِ يا عين و كنت تعلمين أنك سترحلين و كنت تسقينا بدموع الوداع؟
أم اختلس ماءك الجفاف و آبار الجاحدين و حكم عليك بالدمار؟
هل نسوا أسطورة "الكبير" راعي البقر؟
حكوا لنا في الصغر أنه كان هناك راعي إسمه الكبير يرعى أبقار سكان الدواوير بمقابل، يتسلمها صباحا بعد الدر و يعود بها مساء إلى المدشر، و كل بقرة تتوجه الى دار مالكها و حوشها تلقائيا لتلحس و ترضع عجلها.
و في أحد الأيام لاخظ أن هناك بقرة لا يعلم مالكها و لا إلى أية جهة تتجه و لم يتلق أجرة رعيها. فقرر أن يترصدها ليكتشف صاحبها فتبعها إلى أن دخلت بمغارة مظلمة بجرف .و استمر في تتبعها داخل المغارة، و بعد لحظة اشتعلت مصابيح غريبة أضاءت المكان فوجد نفسه و سط جماعة من الجن فرحين بقدوم راعي بقرتهم فأكرموه و كانوا مسرورين بزيارته لهم.
و عندما أراد توديعهم قرروا أن يكافؤوه على رعي بقرتهم و طلبوا منه أن يقترح عليهم نوع المكافأة، فقال لهم:
إن الأمر الذي يشقيني هو أنني أسوق الأبقار إلى مورد بعيد لتشرب و ذلك يتعبني و يعذب الأبقار و لهذا أطلب منكم منبعا قريبا من الدواوير كمورد للأبقار و و البشر و كل المخلوقات.
فلبوا الطلب و ما كاد يخرج من المغارة حتى رأى ماء منهمرا يخرج من الأرض و أطلق عليها عين كبير" و كانت سببا في جمع السكان في مداشر قرب مجرى مياهها. (مجرد أسطورة)
لم تكن تدر يا عين أن هؤلاء السكان الذين تسهرين الليالي لضمان حياتهم سيساهمون في قتلك باختلاس مياهك بواسطة الآبار حتى صارت أراضيهم المجاورة لك كالغربال بالآبار.
هل أبيكك تأبينا أم ابكيك توديعا أملا في عودنك نشيطة بخيرات مياهك و تستقبلين الحسنوات يوميا لتصبين الألبسة و يعود اليك شبابك و جمالك و تودع حزنك و يأسك وتفرح الأشجار راقصة على إيقاعات هوبوب رياح لطيفة و نغمات شقشقات الطيور؟
(صورتا المنبع بعدسة أخي و صديقي السي لحسن الدويب أطال الله عمره)
تعليقات
إرسال تعليق