لوحات من دوار- سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج
الجزء الرابع : حرائق بالمنبع
يصعد فقيه المسجد و إمامه إلى قمة الصومعة العتيقة التي تطل على باحات كل منازل الدوار بغرفها الطينية مستطيلة الشكل و يؤدن بطريقته المغربية بلا لحن و لا غنة معلنا حلول صلاة العصر، و يهب نسيم "الغربي" العليل يلطف حرارة الصيف المفرطة و جو أزقة الدوار الضيقة، و في الساحة التي تتوسطه، تشرع زوابع الرياح الخفيفة الصغيرة في الدوران محاولة رفع قش الذرة و التبن و بقايا روث الأبقار اليابس و الأغنام و الحمير إلى السماء مختلطة بغبار تربة بنية.
و يستيقظ النيام من قيلولتهم و يتوجه جل الشيوخ و بعض الكهول الى المسجد لأداء الصلاة متثاقلين منهكين من تعب الحصاد و آلام العمود الفقري الذي يقضي الصباح من طلوع الشمس الى زوالها مقوسا لجمع سيقان القمح و الشعير و حصدها و لفها على شكل رزمة "تادلا" باحترافية عالية.
و يتوجه جل شباب الدوار مرغمين إلى الجلوس بربوة قرب منبع "عين عامر" ينتظرون قدوم بنات الدوار لجلب الماء البارد الى بيوتهن، و ما يكدن ينزلن أدراج الجرف إلى المنبع المتفجر أسفله حتى تتسمر كل عيون المترصدين على أجسامهن المغطاة بثوب "النيلون" و يهملون جمال الطبيعة المحيطة بالمنبع و شطي النهر و لا يبالون بسحر جلنار الرمان الحمراء التي تضفي جمالا و نضارة للوحة حية رسمتها يد الطبيعة جمعت فيها كل درجات اللون الأخضر التي تملأ نفس الناظر هدوءا و صفاء و راحة.
كل الفتيات ينظرن الى الأرض مخافة من السقوط من الجرف و السقوط في شباك متاهات لا منفذ لها و لا هدف و يكتفين بإختلاس النظر بأطراف العيون بحذر و حيطة و يتظاهرن باللامبالات مخافة من عقاب الإشاعات التي تفضي غالبا الى السجن داخل البيوت و يضعن اوانيهن تحت أنبوب المنبع لتمتلئ بالماء.
و يود المشاهدون ألا تمتلئ ليطول مكوثهن لكي تكمل الأبصار تشريح كل تقاسيم الأبدان رغم أن الألبسة فضفاضة تخفي التقاسيم و قسمات وجوههن لا تعكسها إلا صفحة الماء و المرآة، وبعد أن يملأن ألأواني بالماء الزلال و القلوب بنار الهوى يودعن المنبع و يصعدن الجرف متثاقلات حتى لا يتدفق الماء من الأواني و ريح "الغربي" الخفيف يداعب أثوابهن و عيون المتربصين لا تفارقهن و تتمنى أن يُصعٌِدَ الغربي قوة هبوبه لعله يسهل لها مهمة تشريح خبايا العضلات كقول الشيخ اليازغي: "سوط يا الغربي هز النيلو أو بَرٌَدْ اعل الزين"، و يعدن إلى منازلهن بماء بارد .و يعودون الى بيوتهم بقلوب محترقة و أحلام موؤودة في الصدور.
و هنا ينتهي المشهد لأن الحب و مرادفاته لا وجود لها بالدوار و لا يحق للقلوب اختيار من سكن القلوب لأن ذلك من اختصاص الآباء و الأمهات، و كم من عاشق بكى و هو يشاهد ساكنة القلب تودع الدوار فوق فرس و خلفها جوقة حمادي الكنا رحمه الله تعزف لحن الوداع ...
و كل سنة تبكي القلوب الجريحة وداع من سكنت الفؤاد مجددا تلك السنة بعد ان أُغرِمَت بها على إثر لمحة بالمنبع و تنسى التي رحلت، لأن قلوب العشاق تكره الفراغ من الوجد حتى و لو كان بلا أمل الوصال لأنها ألِفَت جراح الفراق، و قد يكون المحبوب لا يعلم لواعج المتيم في مَدشَرٍ الحُبٌُ فيه محرم.
تعليقات
إرسال تعليق