لوحات من دوار - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كروج
الجزء العاشر: بكيت جدتي في عيد زوجتي
من أعطى يوم عيد لزوجتي؟ و زوجتي منحتني يوم القران عيدا لم ينته، فالذي وضع يوم عيد لها عقله كعقل جدي مع جدتي.
بيوم عيدك هذا يا زوجتي تذكرت عذاب جدتي، عذاب سَلِمَت من ويلاته أمي بمعاملة أبي الرفيعة لها و برحيلها شابة بعد رحيل أبي.
جدتي التي جهلت طعم الحياة طول الحياة بولادتها بسجن أبويها و أَوْدَعاها بسجن أبوي جدي عبدة لخدمة الحمة و أب جدي و جدي و الأخوان و الاخوات.
سجنت جدتي في زواج كان سجنا لجل الفتيات في دواري في قبيلتي، و قضت عمر شبابها داخل الدار خادمة في كل غرفة و من في الغرفة و نسيت أن في الكون حياة خارج البيت.
لم تنعم جدتي باختيار لباسها و زينتها بذوقها بل تلبس و تتزين بذوق أم جدي و تطبخ بذوق أم جدي و تنفد الأشغال وفق برناج أم جدي : تنظيف الدار و حوش الأبقار و الأغنام و طبخ الوجبات و طحن الحبوب و غربلة الدقيق و التصبين و رتق الألبسة الممزقة و غزل و قرشلة الصوف و نسج الجلباب و السلهام و "الحايك" و البطانية "لعديلة" و "لقطيفة".
جدتي التي فقدت يداها نعومة الأنوثة من شدة برودة الماء و الشقاوة فصارتا خشنتين كالقرشال(المشط).
جدتي التي ضعف بصرها و تقوس ظهرها من جراء إنحنائها جل الأيام على "اطْبَقْ" لتنقية حبوب القمح و الشعير و الذرة و العدس من الأعشاب و الطفيليات، و على قصعة الفخار أو العود لفتل (تكوير) حبات "الطعام" (للكسكس).
جدتي كانت آلة في عقل جدي اشتراها بضمان الصلاحية مدى الحياة و إذا مرضت أعادها إلى البائع "ابيها" لإصلاح العطب أو فسخ عقدة البيع.
كانت جدتي هي المسؤولة على جنس المولود و العقم، أما جدي فمعصوم من النواقص و السقم، كانت جدتي مسؤولة على خِلقة المولود إن كان ذميما، نسبوا ذمامته لأمه و أخواله، و إن كان وسيما فوسامته موروثة من أبيه و أعمامه.
لم يناديها جدي باسمها حتى نسيت أن لها إسم من أسماء السيدات و لم يعد لها إسم بعد تسجيله في عقد الزواج بل أسماؤها حسب مزاج جدي: "أفاين راك آهيا؟. أفاين راك أذيك لوليا؟ أفاين راك أديك لحمارة؟ أفاين راك أذيك الويلا؟ أفاين راك آبنت لحرام؟" آفاين راك آوجه الزرمومية؟ آفاين راك آ الكعبوب دا سيطوط؟
جدتي التي لم يصافحها جدي يوما بعد عودته من أسفاره و لو غاب سنوات، جدتي التي كان يصحبها جدي الى السوق كالأتان لنقل البضائع على ظهرها و كل المشتريات.
جدتي التي كان يرغمها جدي لنقل الحطب كالحمار من الغابات، جدتي التي كانت تنتظر جدي ليفرغ من أكل الوجبات لتقتات بما بقي من فتات، جدتي التي لم تجد من يحميها من عذاب جدي و حَمَتِها و إذا التجأت الى بيت أبيها ترجو الحماية عذبها أبوها كعذاب جدي وأعادها إلى جدي ليعذبها بالسب و الصفع و الركلات.
جدتي كانت تعمل في الحقول كل الفصول و جدي يلعب الورق مع أجدادٍ أمثالهه في "الدراز" (الدكان و مقهى) و يقضي وقته متنقلا بين الجدران باحثا على الظل في الساحات و ينتظر عودة عبدته جدتي لطبخ الوجبات.
جدتي التي كانت تستيقظ قبل الفجر بساعات لتسخين ماء الوضوء لجدي و هي ترتعد من شدة البرد بلا لباس دافئ و عيناها تدمعان من دخان الفرن و الكانون و شظايا الجمرات.
جدتي التي كانت ترافق جدي راكبا حصانه بغله حماره مشيا على قدميها و لا تشكو من ثقل أبي الذي كان طفلا فوق ظهرها و لا مِن آلام الحصبات.
جدتي إذا ذكرها جدي يقول : "لمرى حشاك" و كانت جدتي تشارك الكلب و الحمار في "حاشاك" و في اقدح الكلمات.
طال الزمان يا زوجتي و نسيت آلاف صور عذاب جدتي في دوارها و جل الجدات، لم أكن اعتقد أن جدتي إنسان كجدي رغم أن بدوارها مسجدا و كان الإسلام منتشرا و حذفوا مِن الإسلام كل ما يتعلق بجدتي إلا تعدد الزوجات.
سأل أبي أباه يوما : لماذا تعنف أمي هكذا ؟ فأجابه: لأنها أخرجتني من جنتي مذموما لأذوق مرارة الحياة، و ناقصة عقل و دين و كل الشرور منها ككل الزوجات، و النار مملوءة بالنساء عوانس أو زوجات، و شيخنا و فقيهنا يعلم علم اليقين خبث النساء في الأحاديث و الآيات، و كل جمعة يحذرنا من شر النساء.
فهل كان جدي في جنة الفردوس مع جدتي أم في جنة لم يحرم الله دخولها على الشياطين تحريما؟ و هل أرغمت جدتي على أكل فاكهة الشجرة؟ و هل كان النبي عليه الصلاة و السلم يعنّف زوجاته أم كان يطبخ أكله و ينظف ثوبه و يعيل و يخدم أهله و هو مبعوث للكون إماما ؟ فهل اتبعنا الشياطين و صدقنا الخرافات و خذلنا من كان للمتقين إماما؟
فعيد سعيد يا زوجتي مدى الحياة و لن أستطيع أن أمنحك عيد حياة شبيه بعيدي الذي أحياه معك الى الممات، و لمن أحيى إذا لم أحيى لزوجتي و جنة أولادي تحت أقدامها و جَنَّتَنا كلنا تحت أقدام الأمهات، و أحمد الله أنني لست جدي و أنت لستِ جدتي و عيد سعيد يا بنتاي وبذكركما أعود لأسبح بحر أحلى الذكريات، ذكريات زوجتي أمكما و هي تسقينا الحنان بالفعل و القول و النظرات. وقولا لأسباطي أن جدكم تساوى مع جدتكم و لو أني لا زلت مقصرا في الواجبات، و استوعب أن جدتكم لباس له و جدكم لباس لجدتكم و كل لباس يفوح منه عطر السكينة و الغبطة و المسرات.
و عيد سعيد للمرأة المغربية الشريفة القوية العاقلة الرزينة الساهرة على تربية براعيم الحياة، و الصبر لكل امرأة لا يقدرها الذكر لأنه يعيش في عصر غيره أما عصره فقد رحل مع رحيل جدي و مات و لو قدرك لكان رجلا. و من لم يقدر المرأة : أمه أخته خالته عمته زوجته زميلته في العمل جارته فمماته أحسن من وجوده لأن بقاءه أذى على كل المخلوقات. و لن أرض لك يوم عيد بل عيدا مديدا طول أيام سنوات حياتك يا رافعة الكون إلى سماء الرقي و أعلى الدرجات.
و لِتسمح لي كل أم، لقد خانتني الكلمات لأمجدها لكن تمجيدها في حسن المعاملات.
توضيح: جدات قبيلتي و دواري في حقب خلت جدتي و أجداد قبيلتي و دواري في عصور مضت جدي و كانت هناك بعض الإستثناءات حتى لا أعمم. و لا زال جدي و جدتي القديمان موجودين في عقول تنتظر تغير الزمان رغم أن الزمان قد تغير.
تعليقات
إرسال تعليق