لوحات من دوار- سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج
الجزء الأول: "الشواف"
هل لا زال "الشواف" شامخا محتفظا بعلوه يطل و يتأمل و يراقب كل الدواوير المجاورة لدوار "امطرناعة السفلية" أول دواوير قبيلة بني يازغة من جهتها الغربية الشمالية؟
الشواف مجرد بقايا أطلال ثكنة للجيش الفرنسي تم إحداثها على قمة تل تشرف على كل الطرق و المنعرجات و المنحدرات و السهول المجاورة لها مند بداية دخول الإستعمار للمغرب إستعدادا لغزو كل القبائل المنتشرة بالأطلس المتوسط. و منه يمكن رصد كل تحركات الثوار و محاولات هجماتهم و إحباطها.
و يوجد بقرب "الشواف" "كاف امْغارا" كهف كفواهة بركان صامت تسكنه أسراب الحمام و أرضه جرداء دات طابع صخري تتخلله أجمات الدوم التي لم تترك له الأبقار فرصة النمو و السمو و لا حصاد مناجل سكان الدوار الذين يصنعون من أليافها القفف و "الشواريات" و "إيجومان" (حبال ملفوفة على شكل رقم 8) و "تارازات". (القبعات الواقية من حرارة الشمس).
من هذا "الشواف" تشاهد دوار امطرناعة السفلية ببناياته الطينية و دروبه الضيقة و الساحة التي تتوسطه و التي كانت تتحول إلى بركة ماء في فصل الشتاء، و صومعة مسجده العتيق و ضريح سيدي بوجعفر الذي كان كل مريض يلتجئ إليه ليشفيه بإستعمال تراب أُسُسِ جدرانه(أرقي) أو تراب قبر لالة حليمة الذي يوجد بجواره شرقا. و ضريح سيدي يوسف وسط أشجار البطم الذي لم يكن له سقف لأنه لا يقبله كما كان مشاعا. لكن بعد تسقيفه لم يرفض السقف و سقطت الإشاعة و لا زال السقف ثابتا فوق جدرانه الطينية.
وتحيط بالدوار بساتين الزيتون و الرمان بأنواعه الأربعة: الذهبي و الصفري و العظمي و الحامض، و أشجار التين و فدادين خصبة لزراعة الحبوب والخضراوات كانت حقولا قبل أن يجزئها الميراث الى فدادين صغيرة كبقع السكن، و تحيطه مقابر قديمة لا أحد يعلم تاريخها و منها مقبرة فوقها مدرسة أولاد سحنون التي أحدثها الإستعمار.
ومن جهته الشرقية نهر صغير كانت تغطيه أشجار العديد من انواع الفواكه و أشجار التغزاز الباسقة (المَيْس أو الشُّبَارق و الإسم العلمي: Celtis) و بشطيه شوك "أستيف" (شجيرات التوت الأسود الحلو)( framboise noire) كسياج، و كانت نصف مياهه محجوزة بسد تلي أنشأه السكان لرفع منسوب المياه الى مجرى السواقي العالية للرفع من المساحات المسقية.
و كانت تجاوره مطاحن الدقيق المائية التي كانت تدور بلا توقف و معاصر الزيتون التي كانت تلوث مياه النهر بمرجانها طيل مدة العصير لإستخراج زيت بجودة ممتازة نظرا لقدم أشجارها. و منبعي "عين الرفافد" و "عين عامر" المزودتين الرئيسيتين للدوار بالماء الصالح للشرب. و صهاريج لنقع سيقان القنب الصناعي لإستخراج أليافه التي تستخدم في صنع الجمالات و الحبال، والخيوط المبرومة، وكذلك في الأكياس وأقمشة التغطية المتينة التي لا تتلاشى بسرعة. و أقمشة رقيقة تستخدم لتغطية الجدران و الستائر.
من "الشواف" تشاهد غابة غمرة الممتدة من حدود الدوار الشمالية الى شط نهر سبو الغنية بتنوع أشجارها و وحيشها، و كانت المصدر الإقتصادي الرئيسي للدوار كمرعى للمواشي و جلب الحطب و الفحم قبل أن تصبح محمية مسيجة يمنع على البشر دخولها.
دوار عاش المسرات و الأحزان و رحلت عنه أجيال الى دار البقاء. و هجرته أجيال فرارا من شح إقتصادي خانق ساهم في خراب أجزائه.
فهل تعود الحياة إلى الدوار بمسراتها و حفلاتها و اعراسها التي كانت تدوم اسبوعا و كل يوم بإسمه. و يعود الشيخ بسراباته و هو مسحور بعيون الحمام الذي يطل عليه من السطوح ليزداد وصفه و شعره نارا. و البندير بإيقاعاته و أحيدوس بشطحاته لطرد صمت دروبه الحزينة كصمت مقابره؟
هل تعود أصوات الفتيات اللواتي كن يخرجن إلى بساتينهن لحراستها بعد نضج الفواكة و بأيادهن سلل بداخلها خيوط الحرير متنوعة الألوان و مخيط (عقافة .crochet ) و دفاتر قديمة أو جرائد لصنع "لعقد" و يقضين النهار يرددن بأعلى أصواتهن: "لايلايا عيشا ليلايا فاطمة" ويسردن كل أسماء النساء؟
لقد تعرض الدوار الى عدة هجمات من طرف القبائل المجاورة في عهد السيبة في القرن التاسع عشر بغرض سلب مدخراته و مخازنه الغذائية، و لقد قضى سكانه على جل الغزوات و كانوا ينتصرون لتوفرهم على بعض الأسلحة "كبوجفنة" و "بوشفر" و "بوحبة" و "ساسبو" بالإضافة إلى الأسلحة البيضاء. بل كانوا يصنعون حتى مادة البارود بأنفسهم. و كانت منازله الملتسقة ببعضها تشكل سدا منيعا لا يقتحم من طرف اللصوص بخيولهم .و كانت له بابان يغلقان عند الدخول و الخروج.
و رغم ذلك بقي الدوار صامدا و لم يكن يدر أن خرابه سيكون على يد سكانه بهجره فرارا من فقر لا يطاق.
تعليقات
إرسال تعليق