الجزء الثاني: عقاب الإذلال
كانت الحصص الصباحية بمدرستي الحلوة مرعبة و صعبة و مخيفة و عسيرة لأن كل موادها بالفرنسية و نظرا لصعوبة فهم معانيها و استيعابها و حفظها، تتوتر أعصاب معلمنا العصبي المتعصب و هو يلعن الدهر باستمرار الذي عاقبه بتعيينه بمدرستنا و يشتد العذاب و خاصة إذا استهلك كل سجائر علبته "كازا سبور الزرقاء" و يعود التلميذ الذي أرسله لشرائها من "السٌَاكا"(دكان بيع السجائر) البعيدة جدا بخفي حنين لأنها مغلقة .
في dictée كل خطإ في كتابة الكلمات عقاب . في conjugaison عقاب. في grammaire عقاب. في construction de phrase عقاب. كل هذا العقاب يأتي بعد أن نلنا وجبة فطورنا من العقاب صباحا في le calcul و خاصة جدول الضرب و التي كانت أول حصة في الصباح حتى صارت عادتنا استهلال كل صباح بالبكاء المفعم بأنغام موسيقى القضيب و إيقاع الصفع المنظم و تذوق ملح الأدمع المنسابة على الخدود و مخاطات الأنوف التي تقتحم الأفواه المفتوحة المتأوهة من شدة الألم.
و لكي يتفنن معلمنا في إذلالنا و تعذيبنا و يرتاح من تعذيب الأجساد حتى لا يجهد نفسه بالضرب، ابتكر طريقة رائعة و جديدة ليحطم النفس و الشعور و الكرامة و تنمية الكراهية و الانتقام بين التلاميذ و تبقى مترسبة في أعماق اللاشعور إلى الأبد إذ كان يكلف كل تلميذ لم يرتكب خطأ في مادة من تلك المواد أن يعاقب زملاءه الذين أخطؤوا بالصفع و بالعصي و بغلظة و إلا تعرض لعقاب مضاعف و يناوله القضيب ليضرب أكفهم. و كل يوم تتبادل الأدوار فمن ضَرب البارحة يضرِبُه اليوم من ضُرِبَ ضربا مبرحا. و معلمنا جالس على كرسيه يكاد يغمى عليه من الضحك و هو يشاهدنا نبكي و نضع كفينا بين فخدينا لتخفيف ألآلم و البرد و من تشنجات وجوهنا التي تثير ضحك السادي.
و تنتهي حصة الصباح بويلاتها و نخرج إلى الساحة كل يحمل كيسا من قماش بداخله قارورة شاي بارد و قطعة خبز شعير رمادي اللون أو من قمح طري تفوح منها رائحة الخميرة البلدية التي تزيد من حموضتها. و رغم ذلك نأكلها غير عابئين لأن الذوق يختفي مع شدة الجوع و حلاوة السكر الممزوجة بمرارة الشاي الأخضر التي تخفف حموضة الذوق و تركز حموضة الأمعاء.
بعد تناول وجبة الغذاء إن كانت فعلا وجبة أو ترياقا لتخفيف ألم الجوع ، يشكل التلاميذ الذكور فرقتين للعب الكرة بكومة من أثواب قديمة ملفوفة بحبال الدوم. و يلعبون بهدوء مطلق خائفين من إيقاظ المعلم الذي يتمتع بقيلولته.
و يا ويل من صاح و أزعجه. سيكون مصيره غسل وجهه بدموعه التي تستمر في ذروفها على خديه طيلة الحصة المسائية من ألم "فلقة" و قد يبقى واقفا في ركن من أركان الحجرة إلى ساعة الخروج.
كنا نتحمل العذاب مرغمين لفقدان من نشكي إليه المُعنٌِفَ .حتى أباؤنا منحوا لمعلمنا البطاقة البيضاء لتعذيبنا بكل الطرق . أوصوه أمامنا قائلين : أ لفقيه أنت ذبحهوم و أحنا انسلخوهوم و من شكى لأبيه عذابه عُذٌِبَ مرتين.
غريب .كيف كنا ننسى ما يقع لنا داخل الحجرة بمجرد توديعها و العودة إلى منازلنا؟
كيف لم نحقد يوما على معلمنا الذي نحبه و نفتخر به أمام تلاميذ مدارس أخرى إذا التقينا بهم رغم ما يمارسه علينا من أنواع العذاب ؟
هل كنا نعلم لاشعوريا أن العذاب كان لصالحنا؟ لست أدري و إلى اليوم لست أدري.
تعليقات
إرسال تعليق