مدرستي الحلوة - سلسلة مقالات للأستاذ إدريس كيروج
الجزء الأول: حجرة منفى استاذي
كانت مدرستي الحلوة "بغُمْرَة" مجرد حجرة من جزء مرآب لآلات فلاحية بمزرعة للمُعَمٌِر الفرنسي"مسيو رِيُو كما كنا نناديه، تبرع به لإحداث مدرسة بحجرة واحدة لأبناء عماله و عمال المزارع التي كانت كلها في ملكية المعمربن الفرنسيين في بداية الإستقلال و كذلك لأبناء البوادي المجاورة .
كان سقف المرآب من ألواح القصدير كأسقف كل بيوت عمال المزارع الرسميين بضيعات المعمربن كبيوت العمال بمناجم الفحم سالفا (les corons) التي تغنى بها المغني الفرنسي بيير باشلي(Pierre Bachelet) و كان يضم حجرة الدرس و دارا للمعلم كانت سكن "مسيو رِيُو" القديم قبل بناء فيلاته الفاخرة و بقي الجزء الأكبر منه كساحة مغطاة تقي التلاميذ من الأمطار و الحر في أوقات الإستراحة.
كانت مدرستي الحلوة بعيدة على كل السكان وتتوسط دورا من تراب و حجر، و أكواخا نائية متفرقة في حقول و قرب جنبات الغابة و سكانها عمال و فلاحون و رعاة .
ليس لمدرستي الحلوة سياج و لا حارس و لا ماء و لا كهرباء و لا مراحيض و لا أشجار إلا شجرتي الأوكالبتوس غرسناهما في شهرنا الأول من الإلتحاق بالتعليم و بمستوى التحضيري الأول .و تعيش عزلة تامة من حيث الجوار و متطلبات الحياة البسيطة مما يزيدها رعبا و خوفا و إحساسا بالضيق كل ليالي السنة حيث يعم سكون رهيب إلا من شقشقات الطيور التي بنت أعشاشها بالشجرتين و نباح كلاب القرى ردا على عواء ذئاب الغابة.
مدرستي الحلوة كانت تتوفر على ثلاثة صفوف من الطاولات و سبورة بأجزائها الثلاثة و معلم واحد لحصتي الفرنسية و العربية و متعددة المستويات: التحضيري و الإبتدائي الأول ثم الإبتدائي الثاني في آخر عمرها.
كلما التحق معلم جديد بمدرستي الحلوة أُصيب بصدمة كبيرة و اشمأز و كره الحجرة و موقعها و من فيها و اضطربت نفسه و قد يصاب بالإكتئاب و الإحباط و كل الأمراض النفسية المعقدة و يصبح أمله الوحيد على الأقل، الإنتقال و لو لمدرسة مركزية لينجو من الوحدة القاتلة و الخوف ليلا و استحالة التبضع لإنعدام الدكاكين .
و قد يغيب عنا مدة لعله يجد حلا ينقذه من ورطته. و عند عودته خاوي الوفاض لم يجد سبيلا لإفراغ شحنات نفسه المدمرة إلا قضبانا يكسرها على رؤوس و أكف أطفال أبرياء لا دخل لهم في عقاب تعيينه بحجرتهم. و كل سنة ينتقل معلم و يعين معلم و تتحمل رؤوسنا و أَكُفٌُنا و خدودنا عناء عذاب إفراغ شحناتهم المحرقة بالضرب المبرح أحيانا لأن وجودنا في ذلك المكان كان سببا في عقاب المعلم بتعيينه خطأ في حجرة من المفروض ألا تكون حتى لا يعين معلمنا بها. و قد يقول في نفسه: من منع هؤلاء الأغبياء من الرحيل الى المدن و الخروج من هذا الجحيم ليريحوننا بإغلاق هذا المنفى و يريحون أبناءهم من هذا العذاب؟ .أنتم السسب في وجودي هنا. و يشتد الضرب و يزداد قلب المعلم قساوة علينا وقد يلجأ الى علبة "كازا سبور" ليهدئ أعصابه بتدخين التبغ و يرتمي على كرسيه و يضع رأسه فوق المكتب و الدخان ينبعث من سيجارته متمايلا ثم يختفي و يأمرنا بالسكوت المطبق .و نفرح بذلك و نحن نستنشق رائحة التبغ المنتشرة بالحجرة طول السنة.
تعليقات
إرسال تعليق