تاريخ بني يازغة بين الواقع والخيال (الجزء الثالث)- محمد شدادي
توطئة
خلال الجزء الثالث من سلسلة المقالات حول تاريخ قيادة "بني يازغة" سنتطرق إلى نماذج التواصل بين السلطان وقائد القبيلة؛ من خلال المراسلات المتبادلة بين الطرفين.. مع الإشارة لبعض مظاهر الصراع والتنافس المستشري بين القبائل المحلية في علاقاتها وأحداثها التي تتقاطع مع قبيلة "بني يازغة" خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، والتدابير الزجرية المتخذة لقمع المتمردين، وردع الجناة، ونزع فتيل الفتنة.. مع إبراز انعكاس الأحداث الوطنية، وتفاقم المشكلات الترابية على الواقع المحلي للقبائل؛ في محاولة متواضعة لارتياد مجاهل هذه الحقبة الموغلة في النسيان والغموض.
تعيين القواد على القبائل من طرف سلاطين المغرب
لقد كان اتساع الرقعة الجغرافية للمملكة المغربية يفرض على السلطان تعيين أشخاص يمثلونه، حتى يكون للأوامر السلطانية قوة السريان في مجموع التراب الموجود تحت نفوذه. وعليه كان السلطان يحرص على تمثيليته داخل تلك المناطق بأسلوب مرن يمكنه من أخذ فروض الطاعة منها، وفقا لمبدإ الشورى والعدل، وحملهم على الطاعة والامتثال.
وقد كانت مهمة ـ القائد ـ ممثل السلطان هي الحفاظ على الأمن والطمأنينة بالمنطقة المعين فيها، وإخماد كل ما من شأنه أن يشعل نار الفتنة، وجمع الجبايات الشرعية المفروضة، إضافة إلى توطيد علاقات البيعة بين القبائل والسلطان.
الصراع المتواصل بين قبيلتي ”بني يازغة“ و"بني سادن" يضعضع الاستقرار المحلي مع تدهور الأوضاع الأمنية، وقد كان للموقع الاستراتيجي لقبيلة "بني سادن" على الطريق الوحيدة نحو العاصمة فاس آنذاك، دور كبير في نشأة قطاع الطرق، وتطور لصوص القوافل، وظهور الكمائن التي تستهدف البضائع ومواد التموين والماشية والدواب... لاسيما وأنه لاغنى للمسافرين والقوافل التجارية عن المرور ببلاد "بني سادن" ذهابا وإيابا. كما أن العداء المستحكم بين هذه القبيلة وقبيلة "بني يازغة" وقتئذ كان يذكي الصراع، وساهم في تطور أعمال السلب والنهب بين الجانبين، وأدى إلى استفحال النزاع، وتفاقم الصراع، وتطور المشكلات.. مما أدى إلى قيام عدة غارات ليلية بين الطرفين خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، خلفت قتلى وجرحى ورهائن وأسلاب من الجانبين ونٌهبت فيها قطعان الماشية بالخصوص.
تدهور الأوضاع الأمنية المحلية، كان قد أقض مضجع قائد قبيلة "بني يازغة" حمادي البوكريني وأقلق راحته، بعد أن سئم توالي توارد الشكايات، واستفحال السطو والظلم، وتنامي التمرد والاعتداء.. في الوقت الذي استعصى عليه تطويق الصراع بين المتمردين، وقمع الجناة، وردع المعتدين، ووأد أسباب العداء.. ولم تفلح محاولاته المتكررة لفرض الأمن والنظام، وبسط الاستقرار، وإقرار السلام.. رغم تقدمه بالأعذار إلى أعيان قبيلة "بني سادن".
انعكاسات الأحداث الوطنية على الواقع المحلي للقبائل
وقد ساهمت هذه الاضطرابات الدامية إلى حد كبير في تدهور الاقتصاد المحلي، وعرقلة أنشطة السكان؛ بسبب انعدام الأمن والاستقرار، وتضعضع النظام. فأصبح الأمن غير مضمون على النفس والمال. مع الأوضاع التي لا تستقر إطلاقا على حال من الأحوال. لاسيما وأن السلطة المركزية كانت في شغل شاغل مع مراقبة تحركات الدول الأجنبية، ودسائسها الداخلية، ورد أطماعها. والقضاء على حركات التمرد والمشكلات الترابية، وإخماد نار الفتن؛ وتطويق الاضطرابات، ومواجهة ثورات عدد كبير من القبائل المتمردة على طول التراب الوطني. بعد أن حطمت أدوات التخريب من الخارج والداخل أركان الاستقرار.
تاريخ بني يازغة بين الواقع والخيال (الجزء الأول)
تاريخ بني يازغة بين الواقع والخيال (الجزء الثاني)
قائد "بني يازغة" يستعين بالسلطان لتطويق الصراع المحلي
وفي سبيل فرض سيطرة المخزن، والقطع مع قطاع الطرق، وإخضاع حركات التمرد المحلية، وإعادة الاستقرار للمنطقة.. كان لزاما على قائد قبيلة "بني يازغة" الاستعانة بقوة وإمدادات السلطان لتطويق هذا الصراع. فكتب إليه كتابا منتصف عام 1294هجرية/ 1877ميلادية؛ يخبره فيه بواقع الحال، ويطلب معونته وإمداداته ومشورته..
وفي الوقت الذي يصل فيه كتاب قائد "بني يازغة" إلى السلطان مولاي الحسن، فإنه يكون بعيدا عن العاصمة فاس. منشغلا بالقضاء على تمردات القبائل المجاورة للرباط. بعدما توجه في حملة جديدة إلى زمور، ليقابله أهلها متضرعين، مظهرين له خضوعهم، ويؤدوا له من المال والمؤن والضيافات الشيء الكثير. ثم ينتقل إلى غزو عرب السهول بضواحي سلا.. وبعد مطالعته لمضمون الرسالة؛ تعود به الذاكرة لثلاث سنوات خلت، إلى أحداث المغرب الشرقي سنة: 1291 هجرية/1874ميلادية. ويتذكر مولاي الحسن حينما بات منتصف رجب من نفس السنة بأيت سغروشن، وكيف انتصر على ثورة بوعزة الهبري، وسعيد بن أحمد السغروشني ومن شايعهما. ويتذكر حينما انتقل بجيوشه إلى قبيلة "بني سادن" و"أيت سغروشن" المناصرتين للثوار، وكيف أوقع بهم فقتل وأسر، وانتسفت الجيوش زروعهم وبعثرت أرضهم وديارهم.. إلى حين استسلام القبيلتين وعودة الأهالي تائبين خاضعين. ثم يتذكر كيف عفا عنهم ووظف عليهم مائة ألف مثقال وزيادة أربعمائة من الخيل، ليذعنوا لأدائها ويستوفيها العاهل منهم في في أوائل شعبان من السنة (1291).
يتذكر السلطان كل هذه الأحداث الماضية، ويربطها بالتطورات الجديدة الواردة بمضمون الرسالة؛ فيعلم أن الحملة الأخيرة، لم تردع هذه القبيلة.. ولم تقض على حركات التمرد بها. ويدرك جيدا أن الاستقرار المحلي بهذا الثغر في الظروف الحالية بعيد المنال. وأن قمع الاضطرابات بشكل نهائي يحتاج إلى نفس طويل، وعيون متيقظة باستمرار..
وفيما يلي النص الكامل لكتاب مولاي الحسن ردا على رسالة قائد "بني يازغة":
”خليفة خادمنا الأرضى القائد حمادي اليازغي. وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله. وبعد فقد وصلنا كتابك مخبرا بما عليه حال بني سادن معكم. وما نهبوا لإخوانكم من الماشية، وما نهب لهم إخوانكم في ذلك، بعد تقدمكم إليهم بالأعذار. وذكرت أن طريقكم على بلادهم ولا غنى لكم عن مرورها. فها نحن كتبنا لأخينا مولاي اسماعيل بما يكون عمله في ذلك. والسلام. في 27 شعبان عام 1294 هجرية“
هوامش:
التحدي: الحسن الثاني ملك المغرب
الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى: الناصري