محمد شدادي
اشرأبت العيون بلهفة نحو مدخل المستوصف الصغير، وحملقت بأمل في الباب الكبير بالواجهة والمطل على الشارع.. تقاطر المرضى مع مرور الوقت بكثافة كبيرة عبر نفس المدخل. وارتفع الأنين يعلو على دقات الساعة التي تحركت عقاربها ببطء كريه! تعلقت الوجوه بالرجل البدين ، صاحب الوزرة البيضاء.. والذي تحرك بخيلاء.. داخل الممر الضيق للمستوصف، ملقيا بنظرة غير مكثرة على جيوش الأهالي الذين تهافتوا على الكراسي القليلة بالممر طلبا للراحة؛ بينما جلس شيخ كبير القرفصاء أمام حجرة الطبيب متكئا على عصا خشبية مهترئة.
تقدم الشيخ بلهفة نحو صاحب الوزرة البيضاء ظانا أنه الطبيب، ألقى التحية عليه، ودون أن ينتظر منه ردا، راح يصف له الأعراض التي يحس بها، وهو يرتجف من الألم والخجل. فاستوقفه البدين بخشونة ، مشيرا إليه بالعودة إلى مكانه، قائلا بأن الطبيبة ستأتي بين الفينة والأخرى. وقبل أن يلج إلى الحجرة بآخر الممر، أشار إلى أحد الشبان المتأنقين أن يتقدم نحوه، وسأله بلطف غير معهود عن أحوال والده، وهو يصافحه بحرارة مفتعلة؛ ثم قبض على يده ودخلا الحجرة معا دون أن ينسى إغلاق الباب خلفه.
عادت العيون الكليلة بداخل الممر، تحدق بالمدخل من جديد، وبدا للبعض أن عقارب الساعة.. التي تتوسط جدار القاعة.. تتعمد التلكؤ في حركة دورانها.. وبدأ الصبر ينفذ لدى الأجسام العليلة القابعة بتكدس في الردهة.. وانتقل الألم من الأجساد الواهنة، نحو الشفاه المرتجفة.. وضاق الفضاء المحدود بآهات الوجع، وزفرات الضيق والتذمر، وسرت همهمات هنا وهناك، تلعن الوقت، وتسب الزمن!
تحرك بعض الصبية بنشاط غير معهود بالقاعة، وتركوا أمهاتهم عمدا بعد أن أضناهم الجلوس والانتظار. ولم تُجْدِ تحذيرات الشيخ العليل، ووعيده في إيقاف نشاطهم أو الحدّ منه. فاستسلم لقدره مرغما. فعَلَتْ أصواتهم وزاد هيجانهم، وبدا صياحهم مزعجا للجميع. فجأة فتح باب الحجرة المغلق، وأطل منه وجه الممرض البدين، وشياطين الدنيا تتقافز أمام عينيه، وقد استحالت حالته ونال الغضب منه مبلغا عظيما. فتحدث إلى الأمهات بكلام بذيء، وتوعد الأطفال بالويل والثبور إن لم يتوقفوا عن الضوضاء. فتقاصر الجميع أمام ثورته العنيفة، وتهافت الأطفال على حضن أمهاتهم خوفا وهلعا! فعاد الصمت يغلف القاعة من جديد، وعاد الشيخ ينعم بالهدوء، غير معترف بالفضل في ذلك للبدين محملقا فيه بنظرات حادة، وقد أزعجته الحِدّة التي واجه بها الجميع.
فخرج الشاب المتأنق يحمل كيسا شفافا اصطفت به عدة علب للدواء، مختلفة الأحجام والأنواع. ثم صافح الممرض وانصرف. فتحركت سيدة في مقتبل العمر، نحو باب الحجرة، وهمست للممرض ببعض الكلمات، فدخلا القاعة معا، دون أن ينسيا إغلاق الباب بإحكام!
اشتد الألم رويدا رويدا بالشيخ البائس المسكين، واستبد الوجع بجسده الهزيل، وراقبت عيناه عقارب الساعة تقترب من الساعة الحادية عشرة صباحا. حدق طويلا وبلا اهتمام في ورقة "النوبة" بيده، المبللة بعرق أنامله، وقرأ الرقم (30) المدون عليها، فازداد حنقه، وراح يحصي عدد الحاضرين، ويتساءل عن الوقت الذي يحين دوره لرؤية الطبيبة، إذا ما تكرمت بالمجيء. تحركت يده داخل جيب سرواله متحسسا بطاقة "الراميد" بارتياح! وعاد يلقي نظراته نحو المدخل بقلق، وقد أضناه الانتظار، فتعالت قهقهات الممرض داخل الحجرة، تغرد عكس الأنين بالممر.. فتحامل الشيخ على نفسه، واستعان بالعكاز المهترئ، ليصلب طوله متجها نحو قاعة الممرض، فأمسك الرتاج، وفتح الباب دون استئذان سائلا الممرض بلهفة: "وقتاش غادي تجي الطبيبة الله يخليك؟" فقابلته صرخات الممرض الهيستيرية تعنفه، وقد شعر بغضب شديد لمبادرة العجوز بعد أن اقتحم عليه خلوته؛ ثم ابتدره بكلمات غاضبة: "أبنادم، دق الباب، عاد ادخل، واش ماقاريش الصواب؟ قلنا ليك تسنا على برّا حتى تجي الطبيبة، ولا موت كاع!"
امتقع وجه العجوز لحدة وقسوة الممرض البدين، وقد هاله ماسمع منه! ثم أحنى رأسه وأدبر متثاقلا إلى مكانه وقد بذل مجهودا خارقا ليصل إليه.. فتطوعت إحدى السيدات وسمحت له بالجلوس في مقعدها، بعد أن أحست بشفقة وعطف كبيرين نحوه. فشكرها بإشارة من يده؛ ثم تهاوى على الكرسي وأغمض عينيه ليسلم من نظرات الجميع التي أحس أنها تحاصره، وتخترق جسمه، وتسخر من تصرفه.. وعاد يرتجف من فرط الألم، وقد أحس بدنو أجله!
تزايدت حركة الأهالي عند الردهة، وارتفعت أصوات مستنكرة خافتة هنا وهناك، وبدا السخط والتذمر جليا على الوجوه الشاحبة، المتعبة، المقهورة.. وكَلّت العيون من التحديق بالمدخل بلا جدوى؛ والتحم عقربا الساعة في شكل حميمي يعلنان قدوم الزوال. فضاق الفضاء المحدود، بالأجساد المستكينة، وتضاعف حنق أصحابها، واختفت أنّاة العجوز ـ في شبه تسليم ـ وسط صخب الحاضرين؛ واستكان جسده بسلام عكس الجميع.. وقد أغمض عينيه، وأسند رأسه إلى جسده وغطّ في نوم عميق.
فُتِحَ باب الممرض مجددا، وخرجت السيدة تُعدّل من ثيابها ومظهرها.. وظهر هو على عتبته يتحدث عبر الهاتف، ثم ما لبث أن أنهى المكالمة، وتوجه بكلامه نحو الحاضرين بصوت جهوري: "أسيادنا غير سيروا بحالكم هاد النهار! الطبيبة ماغدياش تجي، راها اتصلت دابا وخبراتني بلي راها مريضة! سيرو حتى لغدا..." ثم عاد إلى حجرته وصفق بابها خلفه في عنف، متجاهلا غضب الجيش الواقف بالممر.. فانسحب الجميع يجرّون أذيال الخيبة، وتعالت أصوات بعضهم في غضب هادر، وسخط شديد، وهم يغادرون بجلبة كبيرة. وصاح أحدهم في سخرية وتشَفَّّي: "الحمد لله ملي حتى الطبيبة كاتمرض!".
وما هي إلا لحظات حتى فرغت الردهة، وعاد الهدوء يسود المستوصف الصغير.. وارتفعت أصوات المؤذنين تعلن صلاة الظهر؛ فخرج الممرض البدين متثاقلا، وقد أحس بالجوع والنهم، بعد يوم شاق! فألقى الوزرة بإهمال، بعد أن انتزع منها مفاتيح الباب، واستعد بدوره للمغادرة. قبل أن يتفاجأ بالعجوز مايزال في مكانه يغطّ في نوم عميق! فعاد أدراجه، وهو يردد بغضب شديد: "واش غادي نقابلوك غير نتا؟ نوض أبنادم أعطينا التيساع..!". لم يَبْدُ على العجوز أنه تأثر بثورة البدين، أواستجاب لأوامره هذه المرة. فلم يتحرك قيد أنملة من مكانه، وظل جامدا، متكئا على عصاه. مما زاد من ثورة الممرض الذي دفع كتف النائم بقوة مرددا: "معاك كنهضر ألحيوان! نوض تكعد!". وفجأة تَكَوّمَ الجسد الواهن الضعيف للعجوز دون حراك على أرضية الممر، وطارت العصا المهترئة نحو الركن البعيد! فتسمر الممرض البدين مشدوها لهوْل الصدمة، وفَغَََر فاه من شدة الدهشة للحظات؛ قبل أن ينحني مرتجفا لفحص الجسم المسجى أمامه.. فإذا بالعجوز جثة هامدة! خرج الجميع دون أن يتفطّنوا لوفاة المسكين.. وإذا بيده المعروقة، لاتزال تقبض بشدة على الرقم ثلاثين..
تعليقات
إرسال تعليق