محمد السليلة
عرفت الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية لبعض القبائل، رواجا كبيرا في السنوات الأخيرة، لأسباب متعددة، قد تكون سياسية أوعلمية صرفة. لكن قبيلة بني يازغة لم تحظ بمثل هذه الدراسات، رغم حضورها المطرد في بطون المصادر التاريخية منذ وصول الأدارسة إلى المغرب الأقصى، وتأسيس إمارتهم المستقلة في القرن الُثاني الهجري، والموارد البشرية التي تزخر بها القبيلة في كل التخصصات المعرفية.
وتأتي هذه المداخلة المتواضعة التي أتمنى أن تكون بداية ومنطلق أبحاث جادة حول القبيلة، للتعريف بالإرث الحضاري والإنساني الغني الذي تزخر به. والوقوف على التحولات المجتمعية التي طالت القبيلة، أمام رياح العولمة واندثار الثقافات الأصلية والتغيرات المتسارعة التي يعيشها العالم في الوقت الحالي. صونا للهوية المحلية والتاريخ المشترك والذاكرة اليازغية من الضياع والنسيان.
والموضوع الذي أود طرقه اليوم وأشارك فيه قراء جريدة "صفرو بريس"، هوالطقس الذي كان يقام في القبيلة زمن الجفاف وانحباس الأمطار والذي يعرف ب"ماطا".فما المقصود بهذا العرف الأسطوري ؟ وما جذوره الثقافية واللسانية؟
اعتمدت القبيلة منذ القدم على الفلاحة كنشاط اقتصادي متميز وأساسي، أثر على جميع الأنشطة الاجتماعية والتنظيمية. فكان انحباس المطر يعد ضربا لمصدر عيشها واستقرارها، فوجدوا في طقس "ماطا" ضالتهم، طلبا لاستسقاء بهائمهم وإحياء بلدهم الميت.
كانت عروس "ماطا" تصنع من القصب على شكل صليب لبّس ثيابا أنثوية، ثم تحمل من قبل الأطفال في موكب ابتهالي لا يخلو من دلالات ورمزياتعميقة، داخل القبيلة لجمع التبرعات( سكر،حبوب...) استعدادا لإعداد وليمة، تكون عبارة عن وجبة مشهورة تدعى "أبلبول والفول". التي تعد داخل ضريح مشهور تيمنا بكراماته وبركاته التي يؤمن بها أهل القبيلة. وكان كلما مر الموكب بإحدى المنازل بادرت النساء إلى تبليل عروس "ماطا" بالماء، وحناجر الأطفال تصدح بالأرجوزة التالية:
"السبولة عطشانة اسقيها يا مولانا"
"الزرع يابس ورقو اسقيه يا من خلقوا"
وطقس "ماطا" ليس حكرا على على قبيلة بني يازغة، بل نجده عند القبائل الأمازيغية، بصيغ وأسماء مختلفة وقد يتعدى البعد المحلي ليعرف طريقه إلى جنوب الجزائر وتونس. فعند قبيلة بني عروس بجبالة تصنع النساء عروس "ماطا" بنفس الطريقة المتبعة عند قبيلة بني يازغة، وتسلم من قبل فتيات القبيلة إلى فارس شجاع ليتم التنافس بشأنها بين القبائل، في جو احتفالي تغلب عليه المنافسة الشرسة وإبراز القوة والصمود. وتنتهي اللعبة عندما يتمكن أحد الفرسان بالظفر بالعروس الرمزية حيث، يعتبر الفوز ب"ماطا" فخرا وبطولة لأهل القبيلة الفائزة. وما زالت قبيلة بني عروس بنواحي العرائش تحافظ على هذا التقليد وتحي مهرجانا سنويا، إحياء لتقاليد القبيلة وحفاظا على هذا الرأسمال الرمزي الخصب من الضياع. ويذكر أحد الباحثين أن هذه اللعبة نقلها القطب الصوفي عبد السلام بن امشيش العلمي من بخارى (أفغنستان حاليا) عند رحلته إلى هذه الأراضي. ف"ماطا"حسب تقاليد بني عروس تعني العروس المصنوعة على شكل دمية وليس الطقس في حد ذاته، فنعت الطقس الاستسقائي عند بني يازغة بماطا ليس إلامن باب إطلاق الجزء على الكل، وكذلك عند بني عروس فلعبة التحدي بين القبائل ليست هي ماطا بل تلك العروس الدمية. ولكن لماذا قبيلة بني يازغة جعلت من "ماطا" طقسا استسقائيا تضرعيا بالمقابل قبيلة بني عروس سلكت منحى آخر؟ نرجئ الجواب عن هذا الإشكال، ونسافر إلى الأطلس المتوسط حيث مازالت القبائل على "بربريتها"الأولى، لنجد أن الطقس عريق في هذه المناطق ويعرف ب"تاغنجا" أو "تلاغنجا" أو "أغنجا" التي تحيل باللغة العربية على المغرفة المصنوعة من الخشب (cuillère à pot ) وقد تحيل في الثقافة الأمازيغية على المرأة البائرة (غير المتزوجة) حيث كانت تربط مغرفتين بشكل متعاكس مرفوعتين إلى السماء، ويسدل فوقهما لباسا أنثويا وتحملها النساء للطواف داخل القبيلة لجمع التبرعات لإعداد وليمة قد تكون ذبيحة. ويرجع الباحثون هذا الطقس الوثني في تونس والمغرب إلى العهد القرطاجي حيث كانت الإلهة "تانيت" تعلن عن سقوط المطر بواسطة عرافيها ومتنبئيها، فما المغرفة الموجهة إلى الأعلى إلا تضرعا واستعطافا للسماء، والذبيحة وإعداد الطعام سوى إرضاء للقوى الخفية وكسب عطفها لنزول المطر، والعروسة الدمية وسهر النساء على مراسيم هذا العرف إلا دليلا على المكانة التي أعطاها الأمازيغ للمرأة في إطار تقسيم الأدوار الاجتماعية ورمزية المرأة التي تحيل على الخصوبة والنماء. أما إطلاق تاغنجا على المرأة العانس عند الأمازيغ ففيه نوع من التشبيه والتمثيل، فالمرأة تشّبه بالأرض ومادامت غير متزوجة فهي"بائرة" من البوار(الأرض غير المحروثة) لذلك عند قبيلة بني يازغة ترش "ماطا" بالماء لسقيها وبعث الحياة فيها من جديد.
وإذا سلمنا أن قبيلة بني يازغة قبيلة أمازيغية حسب مجموعة من القرائن كالطوبونيميا (علم الأماكن والأعلام) ،حيث أستحضر هنا بعض الكلمات الأمازيغية التي مازالت حية داخل اللسان اليازغي ; (كتاغيت، تاسويت، تاغروت، أشبو، تافرورت، أنسيس، أزغار ...) فإن الطقس الوثني "ماطا" ظل حيا داخل القبيلة بعدما تمت أسلمته واستدماجه في إطار الإسلام الشعبي إلى جانب صلاة الاستسقاء لطلب الغيث والاستسقاء. فأصبحت ماطا ينظمها الأطفال بعدما كانت تسهر على مراسيمها النساء كما حدث لأحدوس الذي أصبح ذكوريا فقط في القبيلة، عكس ما نشاهد عند بني وراين حيث مازالت النساء حاضرات في هذه الأهازيج، استبدال المغرفة بالقصب في إعداد "ماطا" رغم أن المغرفة تدل في القبيلة على السقي "كتسقي الطعام بالمغرف"،وليس بالمغرفة لأن التأنيث والتصغير قد يفيد التحقير عند القبيلة، وأن المعتقدات المحلية توصي بعدم ضرب البنات بالمغرفة لأن ذلك قد يؤدي إلى عنوستهن في المستقبل
تعليقات
إرسال تعليق