محمد السليلة
عندما أعود إلى الطفولة المبكرة في بني يازغة، تنتابني الدهشة للرصيد الهائل من الطقوس والتنظيمات والمعتقدات التي حافظ عليها الأجداد جيلا بعد جيل،وسهر الناس على استمرارها وممارساتها حتى أبت النسيان داخل النسيج الاجتماعي للقبيلة، واكتست خاصية القداسة مما فرض عليهم احترامها وعدم تدنيسها تحت أي مبرر. وقد ساهمت هذه الشعائر في الحفاظ على كيان القبيلة وعلى وحدتها وخصوصيتها، وعلى ملكية الأشخاص في الأوقات العصيبة التي ينعدم فيها الأمن، وتضعف سلطة الدولة المركزية.
ومن بين ما يلقاه التقديس في مخيلة أهل القبيلة، "النادر".باعتباره المكان المخصص لجمع المحاصيل الزراعية، لذلك يحظى بعناية فائقة، حيث تبدأ عنايتهم به قبل جني محاصيلهم الزراعية بإعداد ما يسمى "بالرحبة"، وتوفير الوسائل الكفيلة بإنجاح هذه العملية " كشطاطيب الكنس" بمقاييسها المختلفة، والتي تصنع الكبيرة منها من أغصان شجر الزيتون "البري"، والصغيرة من نبات يدعى "بيموت". ثم المذراة الخشبية المسنّنة برؤوس ثلاثية واللوح الخشبي المربع الشكل، فضلا عن خياطة "التلالييس". التي تتقن الأنامل المحلية حياكتها. وهي عبارة عن أكياس كبيرة لنقل الحبوب من المناطق النائية. ثم أكياس القنب التي كانت القبيلة رائدة في إنتاجها – خاصة في دوار القصبة- وقد عرف عن القبيلة أنها كانت تصدرها بكميات وفيرة إلى جهات كثيرة من المغرب ، وفق ما ذكر المستشرق روجي لوطرنو في كتابه "فاس قبل الحماية".
وبعد هذه الاستعدادات المضنية، طوال سنة من الكد والعمل الشاق، من حرث وحصاد وجمع للمحاصيل في النادر، وانتظار وتطلع لموسم فلاحي يتميز بمردود جيد أو ما يعرف "بالصابة". تجرى عملية " الدرس" في يوم شديد الحرارة، حيث تلقى أكوام الزرع داخل الرحبة، على شكل رزم تسمى "توادل" وبحركة دورانية للدواب تصير "الدرسة" جاهزة لعزل الحبوب عن التبن، وهي العملية التي تسمى "بالتدرية".
إن العمل الفلاحي في ذهنية اليازغي بشكل عام شيء شبه مقدس منذ القديم، فالفلاح لا يذخر جهدا في ربط ملكيته أو "رزقه" بطقوس متعددة، جرت العادة على استحضارها أثناء جني محاصيله الزراعية. لجلب البركة وإبعاد عين الحسد. فمن الوهلة الأولى يدشن الفلاح اليازغي بداية موسمه الفلاحي بتقديم القرابين النباتية، "كطبق الجوج"، وهو عبارة عن آنية على شكل صحن كبير مصنوعة من الدوم. يحتوي على أصناف من الفواكه الجافة والحبوب المقلية، تقدم للأطفال .
و"الجوج"، تحيل على "الجوجة"، التي هي دواب الحرث، ثم يكسر الفلاح في اليوم الأول من الحرث على سكة محراثه رمانة، يسيل ماؤها الأحمر على التراب كأنه دم أضحية وجهت لاستعطاف أرواح الأرض للظفر بموسم فلاحي جيد.
ولما، تتعذر عملية " التدرية" بعد الدرس بسبب قلة الرياح الغربية أو انعدامها، ينهمك اليازغي في بناء إشارة سيدي بلعباس لاستجلاب "الريح الغربي" الضروري للقيام بالتدرية، فما المقصود بتلك الإشارة؟ وما جذورها التاريخية؟ ومن هو "سيدي بلعباس"؟.
"سيدي بلعباس" هو أبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي، أحد رجالات مراكش السبعة، ولد بسبتة سنة 524 هـ، وتوفي بمراكش سنة 601 هـ ، وعُرفَ بأنه صاحب الكرامات، خاصة ما تعلق بالفلاحة، كسقوط الأمطار أو صرف الرياح الضارة بالمحاصيل الزراعية، وقد أفرد ابن الزيات التادلي في كتابه؛ "التشوف الى رجال التصوف"، فصلا خاصا لكرامات بلعباس، ومنها أن أحد الجنانين قال " قد تضررنا من الريح الشرقية، فإنها أفسدت علينا النوار، ولا نريد إلا أن تكون الريح غربية ففكر سيدي بلعباس ساعة ثم قال؛ استنشقوا الريح الآن. فاستنشقناها فإذا هي غربية وفي رواية أخرى قال: " (...) خرجت مع الفقيه أبي العباس السبتي من باب الدباغين، وقد أوقد فرن الجيارين والرياح جوفية تلهب بالدخان إلى جهتنا، فقال أبو العباس: أي ريح تريد أن تهب؟ فقلت:الريح الشرقية، فقال لي: تهب الآن، فرأيت الريح قد هبت شرقية فحملت الدخان إلى جهة أخرى".
نفهم من هذا أن أبا العباس السبتي، كان صاحب كرامات المجال الفلاحي بامتياز، فهو المدعو في المغرب "بمول السحابة" و"ضامن الفلاح". واستطاع رصيده الكراماتي أن يستقر في الفكر الميتولوجي المغربي منذ العصر الوسيط، الى اليوم. فلا عجب إذا وجدنا الفلاح اليازغي يستدعي هذه الكرامات "المناخية" في بيدره أملا في هبوب الرياح الغربية (الغربي). لكن ما علاقة ذلك بالاشارة، أو "ليشارة" حسب التعبير اليازغي؟
لا يمكن فهم "الإشارة"، التي هي عبارة عن بناء مرتب من الأحجار بشكل أفقي، إلا باستحضار ما يعرف بأكركور في المعتقدات الامازيغية القديمة.
أكركور حسب محمد حمام، مصطلح أمازيغي وصيغته المعربة في الدارجة المغربية هي "كركور"،كما ورد ذكره في عدد من المؤلفات التاريخية لشمال إفريقية، (كامبس 1961، ويكاس 1950، وسفيل 1959)، وخاصة في المؤلفات المتعلقة بالبنيات الجنائزية والمدافن ، التي تعود إلى فترة ما قبل الإسلام، المبنية بالحجارة الصلبة، وتعرف باسم الرجم وتطلق هذه التسمية على ركام الحجارة. ويعتقد "سفيل" أن أكركور مرتبط في الغالب بممارسات التطير، فهو يخلد المكان الذي قتل فيه شخص قتلا عنيفا أو المكان الذي قتل فيه حيوان مفترس، أو الفج الذي يشاهد منه قبر ولي مشهور. أما إدمون دوتي فيرى أن أكركور هو المكان الذي يرمي فيه المغاربة تعبهم وخوفهم ومرضهم، وبعبارة أوضح يرمون فيه الشُّؤْم، فهو حسب اعتقادهم شيء خطير، من يلمسه تلحقه اللعنة من القوة الخفية التي تسكن فيه، لذلك وجب احترامه، و الخوف منه، وتقديسه.
عندما أعود إلى الطفولة المبكرة في بني يازغة، تنتابني الدهشة للرصيد الهائل من الطقوس والتنظيمات والمعتقدات التي حافظ عليها الأجداد جيلا بعد جيل،وسهر الناس على استمرارها وممارساتها حتى أبت النسيان داخل النسيج الاجتماعي للقبيلة، واكتست خاصية القداسة مما فرض عليهم احترامها وعدم تدنيسها تحت أي مبرر. وقد ساهمت هذه الشعائر في الحفاظ على كيان القبيلة وعلى وحدتها وخصوصيتها، وعلى ملكية الأشخاص في الأوقات العصيبة التي ينعدم فيها الأمن، وتضعف سلطة الدولة المركزية.
ومن بين ما يلقاه التقديس في مخيلة أهل القبيلة، "النادر".باعتباره المكان المخصص لجمع المحاصيل الزراعية، لذلك يحظى بعناية فائقة، حيث تبدأ عنايتهم به قبل جني محاصيلهم الزراعية بإعداد ما يسمى "بالرحبة"، وتوفير الوسائل الكفيلة بإنجاح هذه العملية " كشطاطيب الكنس" بمقاييسها المختلفة، والتي تصنع الكبيرة منها من أغصان شجر الزيتون "البري"، والصغيرة من نبات يدعى "بيموت". ثم المذراة الخشبية المسنّنة برؤوس ثلاثية واللوح الخشبي المربع الشكل، فضلا عن خياطة "التلالييس". التي تتقن الأنامل المحلية حياكتها. وهي عبارة عن أكياس كبيرة لنقل الحبوب من المناطق النائية. ثم أكياس القنب التي كانت القبيلة رائدة في إنتاجها – خاصة في دوار القصبة- وقد عرف عن القبيلة أنها كانت تصدرها بكميات وفيرة إلى جهات كثيرة من المغرب ، وفق ما ذكر المستشرق روجي لوطرنو في كتابه "فاس قبل الحماية".
وبعد هذه الاستعدادات المضنية، طوال سنة من الكد والعمل الشاق، من حرث وحصاد وجمع للمحاصيل في النادر، وانتظار وتطلع لموسم فلاحي يتميز بمردود جيد أو ما يعرف "بالصابة". تجرى عملية " الدرس" في يوم شديد الحرارة، حيث تلقى أكوام الزرع داخل الرحبة، على شكل رزم تسمى "توادل" وبحركة دورانية للدواب تصير "الدرسة" جاهزة لعزل الحبوب عن التبن، وهي العملية التي تسمى "بالتدرية".
إن العمل الفلاحي في ذهنية اليازغي بشكل عام شيء شبه مقدس منذ القديم، فالفلاح لا يذخر جهدا في ربط ملكيته أو "رزقه" بطقوس متعددة، جرت العادة على استحضارها أثناء جني محاصيله الزراعية. لجلب البركة وإبعاد عين الحسد. فمن الوهلة الأولى يدشن الفلاح اليازغي بداية موسمه الفلاحي بتقديم القرابين النباتية، "كطبق الجوج"، وهو عبارة عن آنية على شكل صحن كبير مصنوعة من الدوم. يحتوي على أصناف من الفواكه الجافة والحبوب المقلية، تقدم للأطفال .
و"الجوج"، تحيل على "الجوجة"، التي هي دواب الحرث، ثم يكسر الفلاح في اليوم الأول من الحرث على سكة محراثه رمانة، يسيل ماؤها الأحمر على التراب كأنه دم أضحية وجهت لاستعطاف أرواح الأرض للظفر بموسم فلاحي جيد.
ولما، تتعذر عملية " التدرية" بعد الدرس بسبب قلة الرياح الغربية أو انعدامها، ينهمك اليازغي في بناء إشارة سيدي بلعباس لاستجلاب "الريح الغربي" الضروري للقيام بالتدرية، فما المقصود بتلك الإشارة؟ وما جذورها التاريخية؟ ومن هو "سيدي بلعباس"؟.
"سيدي بلعباس" هو أبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي، أحد رجالات مراكش السبعة، ولد بسبتة سنة 524 هـ، وتوفي بمراكش سنة 601 هـ ، وعُرفَ بأنه صاحب الكرامات، خاصة ما تعلق بالفلاحة، كسقوط الأمطار أو صرف الرياح الضارة بالمحاصيل الزراعية، وقد أفرد ابن الزيات التادلي في كتابه؛ "التشوف الى رجال التصوف"، فصلا خاصا لكرامات بلعباس، ومنها أن أحد الجنانين قال " قد تضررنا من الريح الشرقية، فإنها أفسدت علينا النوار، ولا نريد إلا أن تكون الريح غربية ففكر سيدي بلعباس ساعة ثم قال؛ استنشقوا الريح الآن. فاستنشقناها فإذا هي غربية وفي رواية أخرى قال: " (...) خرجت مع الفقيه أبي العباس السبتي من باب الدباغين، وقد أوقد فرن الجيارين والرياح جوفية تلهب بالدخان إلى جهتنا، فقال أبو العباس: أي ريح تريد أن تهب؟ فقلت:الريح الشرقية، فقال لي: تهب الآن، فرأيت الريح قد هبت شرقية فحملت الدخان إلى جهة أخرى".
نفهم من هذا أن أبا العباس السبتي، كان صاحب كرامات المجال الفلاحي بامتياز، فهو المدعو في المغرب "بمول السحابة" و"ضامن الفلاح". واستطاع رصيده الكراماتي أن يستقر في الفكر الميتولوجي المغربي منذ العصر الوسيط، الى اليوم. فلا عجب إذا وجدنا الفلاح اليازغي يستدعي هذه الكرامات "المناخية" في بيدره أملا في هبوب الرياح الغربية (الغربي). لكن ما علاقة ذلك بالاشارة، أو "ليشارة" حسب التعبير اليازغي؟
لا يمكن فهم "الإشارة"، التي هي عبارة عن بناء مرتب من الأحجار بشكل أفقي، إلا باستحضار ما يعرف بأكركور في المعتقدات الامازيغية القديمة.
أكركور حسب محمد حمام، مصطلح أمازيغي وصيغته المعربة في الدارجة المغربية هي "كركور"،كما ورد ذكره في عدد من المؤلفات التاريخية لشمال إفريقية، (كامبس 1961، ويكاس 1950، وسفيل 1959)، وخاصة في المؤلفات المتعلقة بالبنيات الجنائزية والمدافن ، التي تعود إلى فترة ما قبل الإسلام، المبنية بالحجارة الصلبة، وتعرف باسم الرجم وتطلق هذه التسمية على ركام الحجارة. ويعتقد "سفيل" أن أكركور مرتبط في الغالب بممارسات التطير، فهو يخلد المكان الذي قتل فيه شخص قتلا عنيفا أو المكان الذي قتل فيه حيوان مفترس، أو الفج الذي يشاهد منه قبر ولي مشهور. أما إدمون دوتي فيرى أن أكركور هو المكان الذي يرمي فيه المغاربة تعبهم وخوفهم ومرضهم، وبعبارة أوضح يرمون فيه الشُّؤْم، فهو حسب اعتقادهم شيء خطير، من يلمسه تلحقه اللعنة من القوة الخفية التي تسكن فيه، لذلك وجب احترامه، و الخوف منه، وتقديسه.
تعليقات
إرسال تعليق