نجيب أتريد
حول طاولة مستطيلة ومتوسطة الحجم، جلس الأب وزوجته وطفلهما ذو الثماني شمعات لتناول الغذاء. وهم يشاهدون التلفاز، كانوا يتناولون بنهم وبتلذذ طاجين لحم بالبرقوق، فأثار انتباه الطفل برنامج تلفزيوني، كان يبرز خصائص بعض المناطق المغربية، وما تزخر به من منتوجات وخيرات.غلب الفضول الطفل فتوجه لأبيه بسؤال أيقظ في نفسه حنينا جارفا للماضي:
ـ ما اسم قبيلتنا يا أبي؟
ـ اسمها قبيلة بني يازغة، وتعتبر مدينة المنزل عاصمتها... لكن لماذا تسأل؟
ـ أريد أن أعرف إن كانت هي الأخرى تتوفر على منتوجات وخيرات كباقي المناطق المغربية؟
ـ بالطبع كانت، ولكنها لم تعد موجودة اليوم! فغير بعيد عن هنا ـ أقصد عن مدينة المنزل ـ يوجد ما يسمى بدوار عين بيضة، إذ كانت تخرج من بين أنامل أغلب سكانه، أواني جميلة من الطين، لطالما أغنت المطبخ التقليدي لقبيلتنا وللقبائل المجاورة لنا. كانوا يصنعون ٌالفراحٌ التي تستعمل لطهي الخبز، والقدر والقصعة... وبدوار تاغروت، عرفت صناعة الحلفاء أوجها، حيث كانوا ينتجون كل الأمور التي يحتاجون إليها في حياتهم، ٌكالزنبيلٌ الذي يوضع فوق ظهر الدابة لنقل الأمتعة، والقفة والحصير... أما بدوار القصبة ، فكانت زراعة القنب مزدهرة.
ـ وما هو القنب يا أبي؟
ـ القنب نبات يشبه القنب الهندي المعروف ًبالكيفً ، لكنه ليس مخدرا. ينبت على شكل حبيبات صغيرة على رأس كل قصبة، تصلح للتغذية والزراعة. أما القصب فيستخرج منه ً الفيلاصً .
ـ وما هو الفيلاص؟
ـ الفيلاص عبارة عن خيوط دقيقة ومخبلة يصنع منها الخيش، وكذلك تستخدم في مجالات أخرى.
ـ أرجوك يا أبي أن تشرح لي كيفية استخراج تلك الخيوط!
ـ يحصد القنب مثلما يحصد الزرع تماما، وبعد فرز الحبوب، يؤخذ القصب ويجمع على شكل حزم كبيرة، تحقن داخل صهاريج مائية لمدة طويلة حتى ترتوي. وبعد إخراجها من الماء، تعرض لأشعة الشمس حتى تجف، ويصبح قصبها رخوا. والعملية تحتاج إلى آلة خشبية تقليدية تتكون من ً الفراوة ً و ً الميجمً.
أما ٌالفراوة ٌ فهو عمود سميك، متوسط الطول ، يستخرج ما بداخله حتى يأخذ شكلا مجوفا يشبه ساقية يمر منها الماء ، ويوضع بشكل مائل على حائط أو على جذع شجرة. يأخذ شخص ما بيد رزمة صغيرة رزمة صغيرة من القصب ويضعها عرضا على حافتي ًالفراوة ً، وباليد الأخرى يمسك برأس ً الميجم ً الذي هو عمود يوازي طوله طول ً الفراوة ً لكنه أقل منها سمكا، ويهوي بقوة على رزمة القصب عدة مرات إلى أن تتهشم ، ثم يشرع في الضرب بها على الحائط أو الشجرة وجزيئات القصب الصغيرة تتطاير متلألئة في الهواء، كالنمل ذي الأجنحة تحت أشعة الشمس وهو غارق في الاستمتاع بأيامه الأخيرة في الحياة. وما يتبقى باليد، ذاك هو الفيلاص.
ـ شيء جميل وممتع يا أبي..! أهذا كل شيء؟
ـ نعم يا بني! هناك كنز آخر، وإن لم يكن ماديا فإنه لا يقل أهمية عن باقي الكنوز. إنه التراث، وتراثنا نوعان: الحيدوس وعيساوة. فبالنسبة للحيدوس، هناك الشق الاستعراضي، والشق الغنائي أو الشعري. وبخصوص الشق الأول ، أقصد الرقصة التي تؤدى بفنية من طرف راقصين يلبسون زيا موحدا، ويكون عبارة عن جلباب وعمامة ، بحيث يصطف الراقصون في صفين متقابلين، يتوسطهم عازف للإيقاع أو أكثر. أما بخصوص الشق الثاني ، نجد الشاعر ـ المسمى بالشيخ ـ وفي نفس الوقت المنشد ، يطرق جميع الأغراض الشعرية من مدح ، وهجاء ، وغزل ،وحماسة، وتصوف... وفي مناسبات أخرى سأشرح لك كل هذه الأغراض الشعرية بالأمثلة. وإذا ما وصلنا إلى ثرات عيساوة ، كنا نجده متمركزا على وجه الخصوص بدوار السراغنة، وتاغروت ودار حقون. كانت لهذا التراث إيقاعات جميلة تخرجك من العالم المادي المحسوس، وتنقلك إلى عالم الجدبة ، والحضرة، والتصوف ، والمثل ، بحيث تدخلك في علاقة مباشرة ودائمة مع خالقك. أما كلماته ، فكلها ابتهال، واستعطاف وتضرع للواحد الأحد، كقولهم مثلا:
االله يالله مولانا مولاي أيا سيدي أيا الكريم جود عليا
الموت كاينة ملامات يموت أيا بابا العمدة علا قليل النية
والسبب في ضياع هذه الكنوز يا بني هو قلة الحيلة ، وضيق ذات اليد، وبحيث لا يمكن لأي شيء أن يستمر أو يتطور في غياب من يقدم لأصحابه يد العون والمساعدة. أما التراث ، فالسبب في ضياعه هو أصحابه، وأقصد بذلك نحن ! فكلنا مسؤولون ! نحن الذين تنكرنا له واستبدلناه بغيره تحت مظلة أنه غير مقبول فنيا... وأنت يا ولدي مازلت صغيرا ، والأيام أمامك طويلة. فلما تكبر وتتعلم إذا عثرت على شعب واحد في الدنيا ليس لديه تراث، أو كان لديه وفرط فيه، آنذاك سأتفق معك على قتل تراثنا وإقباره إلى الأبد!
تعليقات
إرسال تعليق