نجيب اتريد
ما أجمل تلك الأيام وما أصفاها! كنا نفتقد الكثير،ولكننا نمتلك الأكثر! كانت أجسامنا شبه عارية، وأقدامنا حافية. أما منازلنا،ففارغة. ليس فيها شيء مما جادت به المدنية، والتقدم العلمي والتكنولوجي علينا مؤخرا! فلا آلة تبريد، ولا تلفاز، ولا حاسوب، ولا مكيف... إلا شيء واحد، إنه راديو كبير الحجم ـ في حجم التلفاز اليوم ـ وضع داخل فتحة في الحائط السميك المشيد من الطين على الطريقة التقليدية. كنا نعيش تحت سقف واحد، أو بالأحرى تحت سماء واحدة في بيت كبير كثكنة عسكرية. والداي وإخوتي وأنا، في الجهةالشرقية، بينما عمي وزوجته وأولاده في الجهة الغربية. أما جدي وجدتي، فهما الملك والملكة:الأمر امرهما والنهي نهيهما. يذهبان حيث يشاءا ويأكلان مما يشاءا، كنحلتين تتقفيا أثر الرحيق في كل زهرة. وعند النوم، قد تراهما معا في إحدى الجهات، وقد تراهما مفترقين في كل جهة وكأنهما حراس القصر.كانت النقود شحيحة، فلو طرقت أبواب المدشر بابا بابا، فلا تستطيع تجميع ولو مبلغ خمسمائة درهم! وفي مقابل كل ذلك، كانت اللمة ، والألفة ، والحب والوئام.
مازلت أذكر أيام الصيف الجميلة رغم حرارتها المفرطة.وعند مغيب الشمس، وفراغ الناس من صلاة المغرب والعشاء، ترى أزقة المدشر خالية من كل شيء. فلا طير يطير ولا وحش يسير! لا تسمع سوى أصوات بعض الصراصير المستمرة في أداء سمفونياتها رغما عنها، تحت الضغط والاستفزاز لفرط القيظ،كنا إخوتي الستة وأنا، أربعة ذكور، وثلاثة إناث، وأولاد عمي الأربعة، كلهم ذكورا، نشكل عائلة واحدة وكبيرة. عائلة لاتقل سعادة عن كل العائلات الموجودة في المدشر. كانت العائلات متقاربة في كل شيء.لا فرق بين هذا أو ذاك، فكل بيت دخلته، لاتجد فيه أكثر من حصير وبطانيتين، وبعض الوسادات المخاطة باليد والممتلئة بصوف الشياه.كاد الفرق بين الفقير والغني أن ينعدم.فكل ما هناك، هو أن الغني لا يفوق الفقير إلا بامتلاكه لأكثر من حمارين أو بغلين. كنت دائما أسمع جدي يقول لأبي، وحدقتا عينيه متسعتين من شدة الدهشة: ٌالعربي ولد حليمة لاباس عليه، كايحرث بزوج ديال لزواجٌ! ... (يتبع)